Sunday, December 28, 2014

العودة إلى الحارات القديمة - شارع قابل

 

العودة إلى الحارات القديمة - شارع قابل

قصة ريادة في حقل التجارة

د. طلال عبد الكريم بكر

مقدمة:

شارع قابل. هو من أشهر أسواق البلد وأقدمها في صنفه كون أنه كان وما يزال ملكية خاصة. وللأسف الشديد أن كثيرا من أبناء جدة لا يعرفون قصته و بعضهم يعتبر سوق البنط جزءا منه. ومن ذكرياتي عن شارع قابل أن الوالد (رحمة الله عليه) عمل لفترة قصيرة في أربعينات القرن الميلادي الماضي في الشونة وكنت أحيانا أتردد عليه هناك.. والشونة هي المستودع الرئيسي للأرزاق الحكومية.

مقطع من صورة جوية مائلة للبلد عام ١٩٥٥م تظهر فيه عدة معالم منها النورية وشارع قابل وشارع فيصل (من أرشيف أرامكو)

قصة شارع قابل:

يذكر الأستاذ محمد علي مغربي في سياق سرده لسيرة الشيخ سليمان قابل "على أن أهم انجاز يتميز به الشيخ سليمان قابل في نظري هو افتتاحه لشارع قابل المعروف والمسمى باسم اسرته حتى اليوم وهو شارع من أهم شوارع مدينة جدة كما هو معلوم. ولهذا الشارع قصة يحسن ذكرها فإن الملك الحسين بن علي هو الذي قام ببناء الشارع في الثلاثينات في عهد ولايته عرش الحجاز وفي عهد ابنه الملك علي بن الحسين اشتراه آل قابل من الملك في مقابل بعض المال وبعض الاغذية التي كانت حكومته في اشد الحاجة اليها لتصرف للجند خلال الحرب, قالوا وكانت الصفقة في مصلحة المشتري اكثر منها في للبائع وليس هذا هو المهم في الامر ولكن المهم ان الشيخ سليمان قابل استطاع بذهنيته المتفتحة ان يجعل من هذا الشارع أهم شارع في مدينة جدة في ذلك الزمان فلقد كان الشارع مكشوفا فتعاقد بيته التجاري مع شركة المانية على تسقيفه وتم تغطية الشارع بسقف من المعدن المضلع (التوتوه) يقوم على اعمدة حديدية ويرتفع ارتفاعا كبيرا لان علو الشارع كان قد بني عليه دور من المكاتب التجارية".



ويشير الأستاذ محمد علي مغربي إلى عامل تميز هذا السوق  عن الأسواق العامة 
في ذلك الوقت "لم يكتف آل قابل بتسقيف الشارع ولكنهم استوردوا ماكينة كهربائية ضخمة وادخلوا النور الكهربائي والتهوية الكهربائية الى كل دكان ومكتب في الشارع فتدافع اصحاب الدكاكين الى الاستئجار في شارع قابل واصبح الشارع مختصا بالقماشين ومن إليهم ممن تحتاج بضائعهم الى مثل هذه التحسينات والتجديدات التي تميز بها شارع قابل."
ويضيف: آل قابل استفادوا كثيرا من التحسينات التي ادخلوها على شارعهم ولكنهم في الوقت نفسه افادوا الناس وقدموا للمدينة التي ينتمون اليها خدمة حضارية لاشك فيها. 

موقع شارع قابل:

يقع شارع قابل على المحور التجاري الرئيسي (غرب/شرق) الذي يخترق منطقة البلد إبتداء من شارع الملك عبد العزيز (باب الصبة آنذاك) وحتي نهاية سوق العلوي بالقرب من باب مكة. وفي الأساس كان الشارع يمتد من جهة الغرب من الحد الشرقي لمربع تقاطع كل من شارع سوق الندى علىي الضلع الشمالي،  وسوق البنط على الضلع الغربي، والخاسكية على الضلع الجنوبي من مربع التقاطع، أما من جهة الشرق فكان الشارع ينتهي قبيل المدخل الشمالي لسوق النورية. إلا أن مسار شارع الملك فيصل (شارع الدهب) إقتطع جزءا من الطرف الشرقي وأصبحت نهاية شارع قابل الشرقية عند الحد الغربي لمسار شارع الدهب.

مسار المحور التجاري الرئيسي (شرق/غرب)

        


حدود شارع قابل وسوق البنط

دلالات الحدث:

تقول الكاتبة والأديبة السيدة ثريا قابل، وهي حفيدة أحد أشقاء الشيخ سليمان قابل، لشارع قابل تاريخ يشهد على تحول استراتيجي في مفاهيم السلطة ونمو رأس المال الشعبي, فالشارع الذي اسسه الشريف الحسين بن علي لم يلبث ان تحولت ملكيته الى رجل من اهالي جدة حين اضطر ابن الشريف ان يبيعه, ان تحول الملكية من يد طبقة اجتماعية الى طبقة اجتماعية جديدة يكشف عن نمو الطبقة الوسطى التي لم تلبث ان امسكت بزمام التجارة من ناحية وزمام الثقافة من ناحية اخرى مشكِّلة سلطة اجتماعية جديدة عرفت كيف تدير امورها في ظل انشغال مركزية الدولة بقضاياها المصيرية آنذاك". إلا أنني لا أتفق مع السيدة ثريا قابل في وصفها لمعنى هذا الحدث بأنه "دلالة على نمو الطبقة الوسطى" فكما سمعت من أحد الذين عاصروا الشيخ سليمان قابل أنه كان وجيها بين وجهاء جدة. ويؤكد الأستاذ محمد علي مغربي هذا الرأي بقوله كان سليمان قابل تاجرا كبيرا، وكان موظفا كبيرا كذلك قبل العهد السعودي، كان رئيسا لبلدية جدة، وحينما تأسست المحكمة التجارية في جدة وهي أول محكمة تقام من نوعها في العهد السعودي وتقوم بالفصل في القضايا والامور التجارية كان سليمان قابل اول رئيس لها. وكان قبل ذلك كله رئيسا للإدارة التي تمنح تراخيص الاستيراد".

صورة قديمة تجمع عددا من أعيان جدة في العقد الثاني من القرن الميلادي الماضي من بينهم الشيخ سليمان قابل

وفي رأيي أن لهذا الحدث دلالتان، الدلالة الأولى سياسية لا تتأثر بموقع الحدث أو زمنه، أما الدلالة الثانية فهي إقتصادية ترتبط إرتباطا وثيقا بأوضاع جدة الإقتصادية في ذلك الوقت وما نشأ عن هذا الحدث فيما بعد بالنسبة لإقتصاد المدينة وأسلوب التجارة فيها. فبالنسبة للدلالة السياسية فإنني أرى أن هذا الحدث ماهو إلا وليد العلاقة التاريخية بين الحاكم وطبقة الأعيان وكبار التجار من الرعية. فالحاكم يحتاج دائما إلى الدعم المعنوي والمادي من الفئة المؤثرة من الرعية وهم غالبا فئة كبار التجار والأثرياء وهؤلاء بدورهم يتوقعون من الحاكم إن يوفر الأمن والإستقرار في البلاد اللازمين لحماية تجارتهم وثرواتهم.

أما بالنسبة للدلالة الإقتصادية للحدث فإن شارع قابل كان بداية لعدد من الشوارع ذات الملكية الخاصة أذكر منها شارع فيصل وشارع دخيل وشارع بن زقر. كما أن هذه الشوارع هي نواة للأسواق المركزية التي إنتشرت فيما بعد في البلد وخارجها نتيجة توفر الطاقة الكهربائية وتوسع المدينة.


سوق البنط عاام ١٩١٨م (١٣٣٧هـ)       


سوق البنط ومدخل شارع قابل في عشرينات القرن الميلادي اللماضي




المدخل الغربي لشارع قابل من سوق البنط عام ٢٠٠٣م

:الخاتمة

إن شارع قابل ليس مجرد سوق من أسواق البلد وإنما هو معلم هام من معالمها يرمز لحدث هام في تاريخها التجاري وكان من الأولى لملاكه الحاليين، ولأمانة محافظة جدة، أن يولوه العناية والإهتمام على النحو الذي يعكس دوره في تاريخ المدينة. فمثلا لو نظرنا إلى أسلوب تسقيفه الحالي لرأينا أنه لايتفق مع المتطلبات البيئية من حيث الإضاءة والتهوية الطبيعية. أما بالنسبة للشكل المعماري فإنني أعتقد أن السقف الذي بناه الشيخ سليمان قابل قبل ما ينيف عن ٩٥ عاما أجمل بكثير من السقف الحالي إذا ما أخذنا معايير ذلك الزمان في الإعتبار مقارنة بالمعايير الحالية.