العودة إلى الحارات القديمة - قصة المعادي - قصة الريادة الغائبة عن ذاكرة جدة
لمحة موجزة
تمهيد
طائفة المعادي هي إحدى طوائف عمال البحر الذين ذكرهم الكاتب الأستاذ محمد صادق دياب (رحمة الله عليه)، وهو من أبناء حارة البحر ووالده (رحمة الله عليه) كان
من رجال المعادي، في كتابه "جدة - التاريخ
والحياة الإجتماعية"، أن "الغالبية العظمى من سكان جدة، وبصورة خاصة سكان حارة
البحر ... قد إرتبطت مصادر دخلهم بالبحر، وهم عدة فئات وشرائح مهنية من
أبرزها المعادي والسفرية والغواصين والصيادين والمزاورية والكرانية وصانعي
السنابيك". إلا أن طائفة المعادي تعتبر فريدة من بين بقية هذه الطوائف كونها نشأت بسبب طبيعة تكوين الساحل الواقع عليه الميناء القديم حيث كانت السفن ترسوا على مسافة منه ويتم نقل حمولاتها بواسطة السنابيك التي يعمل عليها بحارة من أبناء جدة من طائفة "المعادي". ونمت هذه الطائفة بنمو حركة الإستيراد إلى جدة والزيادة في عدد الحجيج القادم لأداء فريضة الحج، وزالت بزوال الحاجة لها بعد إنتقال الميناء إلى موقعه الجديد جنوب جدة في مطلع خمسينات القرن الميلادي الماضي. ولذلك فإن أعمال المعادي كانت جزءا مفصليا في منظومة أعمال الميناء. وبالرغم من الدور المحوري الذي لعبته طائفة المعادي في تطور ونمو مدن الحجاز فأننا لا نجد لهذا الدور ذكرا في مؤلفات المؤرخين والكتاب المعاصرين. وبالرغم من أن والدي (رحمة الله عليه) لم تكن له صلة بأعمال البحر إلا أنني ولدت ونشأت في حارة البحر وسط بيئة كان البحر، وأعمال البحر، محور حياتها. حيث كان أعمامي ومخولتي من آل الغرباوي (بيت سيد) يعملون بشكل أو بآخر في هذا المجال. ولذلك رأيت أنه من الواجب علي أن أسطر شيئا عن هذا الجانب من تاريخ جدة من باب الحفاظ على أثر واحد على الأقل لسيرة أولئك الرجال من أبناء جدة الذين وضعوا جدة على خارطة العالم كأحد أهم الموانئ على ساحلي البحر الأحمر وذلك على الرغم من الطبيعة الخاصة لمرفأها لعل في ما سأذكره هنا في هذا الخصوص، ولو أنه قليل من كثير، يحفز طلاب التاريخ على دراسة هذه التجربة الفريدة في حياة الموانئ البحرية وتقييم أثرها على المجتمع الحجازي. وحيث أنني لست مؤرخا فإن ما سأذكره هنا عن أعمال البحر في جدة خلال تاريخها السابق وحتى إنتقال أعمال الميناء من الميناء القديم إلى الميناء الجديد جنوب جدة هو من واقع ما خبرته وما قرأته وما سمعته.
مقدمة
جاء إهتمامي بسيرة البحر وأهل البحر، ووطائفة االمعادي بالذات، في وقت متأخر نسبيا حينما وقفت بطريق الصدفة البحتة على أطلال جمرك الركاب بمنظرها الكئيب وكنت أعتقد بأن جميع منشآت الميناء قد هدمت منذ عام ١٩٧٣م حسب ما ذكره المستشرق الإيطالي أنجيلو بيشي في كتابه (JIDDA - A Portrait of an Arabian City). وأشد ما آلمني أن أشاهد هذه الأطلال، التي عبر من خلالهاعشرات الألوف من ضيوف الرحمن عند قدومهم من بلاد بعيدة لأداء فريضة الحج وعند مغادرتهم هذه البلاد بعد أداء الفريضة، وقد تحولت إلى مرآب لسيارات موظفي أمانة محافظة جدة! كان ذلك في أواخر عام ٢٠٠٤م.
|
بقايا ميناء جدة القديم - أطلال جمرك الركاب في في نهاية عام ٢٠٠٤م |
وقفت هناك وأغمضت عيني، وعدت بالذاكرة إلى الوراء عقودا عديدة، وخيل إلي أنني أسمع هرج ومرج رجال المعادي على سنابيكهم يراقبون المزاورية وهم يفرغون عفش الحجاج على رصيف الجمرك، وتهب عليّ طراوة البحر محملة برائحة عرقهم ممزوجة بملوحة ماء البحر. وفجأة فتحت عيني على واقع المكان الكئيب والمحزن في آن واحد. وقررت حينها أن أكتب شيئا ولو مجرد لمحات عن قصة المعادي التي، فيما يبدو، سقطت من ذاكرة جدة.
|
Add caption |
|
علي حسن مراد (رحمة الله عليه) |
وبدأت في البحث عن مراجع ومصادر أستقي منها معلومات وصور عن أعمال البحر وأهله وكان أول من إلتقيت بهم هو الأستاذ علي حسن مراد (رحمة الله عليه) الذي بدأ العمل في المعادي وعمره لم يتجاوز ١٤ سنة. وللأسف فلم يتسنى لي الإجتماع به سوى مرتين قبل أن ينتقل إلى رحمة الله.
لمحة من عمل المعادي
|
منظر سنابيك المعادي على البعد (من مجموعة السير أندرو رايان) |
ومما رواه لي الأستاذ علي حسن مراد (رحمة الله عليه) وصفه للحظة إنطلاق سنابيك المعادي نحو السفينة القادمة متى "ندخت" أي ظهر دخانها في الأفق. قال رحمة الله عليه أن العادة جرت على أن يقوم وكيل الباخرة بإبلاغ كلا من خفر السواحل (حرس الحدود) وشيخ طائفة المعادي بموعد وصول الباخرة وذلك قبل الموعد بيوم على الأقل. ويقوم شيخ الطائفة بإبلاغ الشيخ المسؤول حركة السنابيك في الميناء بالموعد ليتهيأ رجال المعادي بسنابيكهم ويعدون عدتهم لمقابلة السفينة حينما ترسوا في الحوض خلف الشعاب الممتدة على طول الساحل. ولكي لا تسود الفوضى بينهم فإن إنطلاقتهم نحو السفينة تتم في وقت واحد حينما "تندخ" السفينة وحينها ينادي شيخهم بأعلا صوته قائلا "جاكر ياواد". و"جاكر" تعني سابق أو أبدأ السباق و "ياواد" تعني يا ولد. حينها يشرع البحارة أشرعة سنابيكهم وينطلقون غربا نحو الحوض ليلاقوا السفينة حينما ترسو والكل يأمل في أن يسبق الآخرين ليحظى بنصيب أوفر من شحنتها سواء كانوا حجاجا أو بضاعة.
ويصف
الحاج محمد أسد، عند قدومه للحج عام ١٩٢٧م إقبال سنابيك "المعادي" عليهم فيقول: "ومن ثم رأينا جيشاً
من الأجنحة البيضاء يندفع نحونا من البر: الزوارق العربية التي مخرت
بأشرعتها المياه الهادئة ، وشقت طريقها بصمت بين الشعاب المرجانية غير
المنظورة - أول رسل جزيرة العرب ، مستعدة لاستقبالنا.
|
منظر حجاج يهبطون على سلم الباخرة إلى سنابيك المعادي التي ستقلهم إلى الميناء |
وإذ
إقتَرَبت رويدا رويدا من السفينة لتزدحم آخر الأمر بصواريها المتمايلة إلى
جانبها ، إنطوت أشرعتها الواحد تلو الآخر كأنها أجنحة طيور تصفق فرحاً
بعثورها على الطعام ، وأنبعث من صمت اللحظة المنصرمة صراخ و صياح من وسطها ،
صياح الملاحين الذين أخذوا ينتقلون من زورق إلى زورق واندفعوا إلى سلم
السفينة ليفوزوا بأمتعة الحجاج".
كما يصف الأستاذ محمد صادق دياب بشيء من التفصيل طبيعة عمل المعادي وأحوالهم فيقول: "هؤلاء هم الذين ينقلون البضائع بمراكبهم الشراعية من السفن إلى الميناء القديم حينما كانت السفن الكبيرة تقف بعيدا عن الشاطئ بسبب الشعب المرجانية وضيق الميناء، وهي أكبر شرائح البحارة في جدة وأكثرها ثراء إلى الدرجة التي كان يطلق عليهم مسمى "البرامكة" نظرا لما هم فيه من خير وثراء ... وقد بلغ عدد السنابيك في منتصف القرن الهجري الماضي (القرن الرابع عشر) حوالي ٣٠٠ سنبوك"
|
صورة حجاج على إسكلة الميناء القديم ينتظرون إنهاء إجراءات تسجيل قدومهم |
وكما ذكرنا أعلاه أن مهنة المعادي في ميناء جدة القديم كانت مهنة فريدة نشأت نتيجة طبيعة الساحل الواقع عليه الميناء، ولعبت دوراً محورياً في سلسلة الإمداد البحري لمدينة جدة، والتي لولاها لما أزدهرت جدة لتصبح مستودع التجارة بين الهند وبلاد العرب ومصر وشمال إفريقيا وأوربا من ورائها قبيل قدوم السفن البخارية وشق قناة السويس، ولما أصبحت "بوابة الحرمين"، ولبقيت مجرد قرية صيادين. ليس هذا فحسب بل أن معظم المهن الأخرى المتعلقة بأعمال البحر ما كانت لتكون في ذلك الوقت لولا وجود طائفة المعادي.
نهاية المعادي
|
صورة المزاورية وهم يفرغون حمولة سنبوك على رصيف الميناء القديم |
في عام ١٩٥١م إنتقلت أعمال الميناء إلى موقعه الحالي جنوب جدة حيث أنشأت الدولة سقالة تصل اليابسة بالبحر العميق. وبهذا أنتفت الحاجة إلى المعادي، ولو أنه ظلت هناك حاجة لإستمرار السنابيك في نقل فئات معينة في نقل بعض فئات البضائع الواردة وتفريغها على رصيف صغير خصص لهذا الغرض في الميناء الجديد. إلا أن هذه الحاجة كانت حاجة وقتية زالت بعد توسع الميناء الجديد.
كانت نهاية المعادي نهاية حزينة، كتب عن بعض آثارها الدكتور عبد الله مناع في كتابه "تاريخ ما لم يؤرخ - جدة - الإنسان والمكان" والأستاذ محمد درويش رقام (مجلة رواشين جدة - العدد الخامس والثلاثون - يناير ٢٠١٤) وفيما عدى هذا لا نجد ذكرا لهم في كتبنا المعاصرة أو في أحاديثنا عن التراث أوعن "الزمن الجميل".
|
صورة ميناء جدة القديم عام ١٩٦٢م {من أرشيف أرامكو السعودية) |
|
سنابيك تنتظر تفريغ حمولاتها في الميناء الجديد (من أرشيف أرامكو السعودية) |
No comments:
Post a Comment